ماسينيسا mascula



ماسينيسا عظيم الأمازيغ :

الملك ماسينيسا (238-148 ق.م.) (*) ماسنسن، من استعادة حقّه في العرش الماسيلي الأمازيغي إلى بناء الوحدة النوميدية الأمازيغية. 


mascula مهد الحضارة الماسينيسية الأمازيغية :



بالأمازيغية: خنشلث / khanchleth / ⵅⴰⵏⵛⵍⴻⵜ كانت تسمى قديما مسكالا أو ماسكولا Mascula; Mascalae; Maxila.الاسم القديم الذي يرجع استعماله إلى القرن الثاني قبل الميلاد، حيث كانت منطقة عسكرية بالدرجة الأولى إذ سميت عليها الزهرة المميزة للمنطقة من فصيلة Orchid اوركيديا ماسكوليس



مدخل لتاريخ شمال افريقيا الأمازيغي :


مقدمة الواقع أنّ تاريخ شمال افريقيا نطلق من هنا، من هضبة طاسيلي ناجّر (Tassili N’Ajjer) من تلك الحضارة التي هي أوّل حضارة صورة في تاريخ البشرية، وإذا كانت مصادر التاريخ النوميدي الأمازيغي قد أتلفتها أيدي الغزاة فإنّ من غير الموضوعي نفْي وجود هذا التاريخ والقفز عليه لجعل تاريخ الأجانب المستوطنين تاريخا “وطنيا” لهذه البلاد، وهو ما لم نجده لدى أيّ أمّة حيّة. عندما وصل البحارة الفينيقيون إلى السواحل الأفريقية الأمازيغية وجدوا مجتمعا قائما بنظمه الاجتماعية والسياسية، وبأعرافه وتقاليده ومعتقداته، ولقد كانت قرطاج وهي أكبر مصارفهم، عبارة عن قاعدة تجارية مستأجرة مقابل إتاوة تدفعها سنويا إلى ملوك البلاد، وعندما كانت هذه المدينة تنمو عمرانيا وديمغرافيا واقتصاديا كان ذلك بفضل سكّان البلاد الذين تعود إليهم أفرقة قرطاج (Africanisation de Carthage)، بحيث كان العنصر الفينيقي في المدينة لا يمثل سوى أوليقارشية تجارية حاكمة أما المجتمع في عمومه فكان أفريقيّا ماسيليّاً أمازيغيا. يكون قد تعاقب على حكم المملكة – التي وجدها بحارة صور قائمة- ملوك عديدون متسلسلون من يارباس (Hiarbas) إلى قايا (Gaïa) على امتداد فترة طويلة (814 ؟- 206 ؟ ق.م.) ولكن لا نعرف عنهم شيئا، لأنّ المصادر الأفريقية تعرّضت للتلف، خاصّة في أعقاب تدمير قرطاج وحرق مكتبتها، وبالمقابل فإنّه منذ بداية الحروب البونية حملت إلينا المصادر الإغريقية واللاتينية معلومات مهمّة عن الشمال الأفريقي عموما وعن مملكة وملوك الماسيل الأمازيغ على وجه الخصوص. رغم أنّ الملك ماسينيسا الأمازيغي حظي بمكانة بارزة في تلك المصادر إلاّ أنّ العديد من التفاصيل الهامّة المتعلّقة بظروف اعتلائه العرش – وعلى الخصوص الظروف المحيطة بإقصائه وسلب حقّه في الحكم – لا تزال حبيسة تلك المصادر، لأنّ الذين يريدون تحميل الأقليذ الماسيلي الأمازيغي مسؤولية مصير قرطاج ليس من مصلحتهم إبراز التفاصيل المتحكمة في سير الأحداث التي قلبت التحالفات في المنطقة، ولذلك كنّا نطرح سؤالا مركزيا وهو لماذا يتحالف ماسينيسا مع الرومان وهو من كان على رأس جيش ملكي ضدّهم إلى جانب قرطاج؟ وكنّا نرى أنّ اختزال التاريخ في قضية التحالف دون امتلاك كلّ تفاصيل وملابسات وظروف الموضوع سيؤدّي إلى إصدار حكم مغرض وناقص، وإذا كانت للحروب مسوّغاتها ومبرّراتها فأين المسوّغ والمبرّر والحكمة في غدر أشفاط قرطاج بماسينيسا الذي حارب على رأس جيشه في إيبريا إلى جانبهم بل وضرْبه بمن كان يحارب في صفّ الرومان ضدّهم ؟ وهل من الحكمة إهدار القدرات القتالية بإثارة النزاع بين الماسيل والماسيسيل الأمازيغ من قبل أشفاط قرطاج ؟ وهل أبقى هؤلاء على شيء يمكن أن يصون التحالف بينهم وبين جيرانهم الماسيل … ؟ هذه هي التساؤلات التي نحاول الإجابة عنها في هذا المقال. نشأة مملكة الماسيل الأمازيغية تكون مملكة الماسيل قد انبثقت من المثلث الواقع ما بين المدن الثلاث: تيفست ودوقة وسيرتا، فهذه المدن الداخلية الثلاث هي أقدم مدن الشمال الأفريقي الأمازيغي القديم وإذا كانت معالمها النوميدية قليلة وأهمّها ضريح دوقة وضريح مدغاسن وضريح الصومعة فإنّها على قلّتها كافية لتكوين صورة على المستوى الحضاري الذي بلغته هذه المملكة. هذه المعالم تحمل دلالات كثيرة معمارية وسياسية… فضلا عن الدلالات الدينية، تجعل تاريخ المنطقة أوسع وأغنى من تلك الإشارات المقتضبة التي فلتت من أقلام الكتّاب الإغريق والرومان، وهي الإشارات التي سهّلت على المعادين لتاريخ الشمال الأفريقي مهمّة طمس هذا التاريخ، ليصلوا أخيرا إلى أنّه (الشمال الأفريقي) آخر بلد دخل التاريخ، وفي نظر هؤلاء يكون القطب الشمالي قد دخل التاريخ قبل منطقتنا وأكثر من ذلك يريدون إقناعنا أنّه لولا تلك “اللفتة الكريمة” من أولئك البحارة الفينيقيين لظلّت في سباتها خارج التاريخ . كانت مملكة الماسيل الأمازيغية التي نشأت قرطاج على أرضها- تمتدّ من الوادي الكبير غربا (Ampsaga) إلى طرابلس شرقا، وكانت لها عواصم ملَكية عديدة، وأقدم ملك لها ورد ذكره في المصادر هو يارباس (Hiarbas) الذي منح للاجئين فينيقيين – تقودهم امرأة اسمها إليسا (Elissa)- امتياز تأسيس مركز تجاري هو قرطاج ، ويدل تكرار اسمه في سلالة الملوك النوميد الأمازيغ على أنّه من أسلافها ، كما أنّ وجود ملك في تلك الفترة دليل على قدم الأنظمة السياسية في الشمال الأفريقي الأمازيغي القديم ، وإذا كان تاريخ ظهور وانتظام هذه المملكة غير معروف بسبب ضياع الوثائق التي تكون قد سجلت ذلك فإنّ الوضع الذي كانت عليه خلال تأسيس قرطاج وخاصّة أثناء الحرب البونية يدلّ من خلال المصادر الأدبية والأثرية على بلوغها مستوى حضاريا هامّا. تساءل اقزال عن حقيقة أن يكون الأوراس هو مهد الأسرة الملكية الماسيلية مشيرا إلى ضريح مدغاسن، وأنّه موطن القبائل النوميدية الجيتولية وقاعدة خلفية للمقاومة على امتداد التاريخ الأمازيغي القديم، وأنّه بلد الموسولام وزعيمهم تاكفاريناس، وما إقامة معسكر لامبيس خلال الفترة الرومانية في تلك المنطقة إلا لتمركز مقاومة شرسة فيها استلزمت إقامة مثل ذلك المعسكر . ثاني ملك ذكرته المصادر هو أيليماس(Ailyma() والثالث هو قايا (Gaïa) في إشارة تدلّ على أنّه من سلالة ملَكية حاكمة على امتداد أجيال، وقايا هذا هو والد الملك ماسينيسا كما هو معروف . كان الملك الأمازيغي ماسينيسا ما بين 212 أو 211 إلى 206 مقيما على رأس جنده في إسبانيا، وكان خلالها يعود إلى بلده لبعض المسائل التي تهمّه أو لنقل المجنَّدين إلى جبهة القتال في إسبانيا ، وطيلة هذه الفترة كانت مملكة الماسيل حليفة لقرطاج. ظروف اعتلاء الملك ماسينيسا عرش الماسيل عند وفاة والده قايا ، كان الملك ماسينيسا (207 ق.م.) في حوالي الثلاثين من عمره، وحسب القاعدة الأغناطية ، فإنّه لم يكن مؤهَّلاً لتولي العرش الذي استلمه عمّه أوزالاس (Oezalès)، وتسارعت الأحداث بعد ذلك فما لبث هذا الأخير أن توفّي بعد أخيه قايا بمدّة وجيزة، فاستلم العرش ابنه البكر كابوسا (Capussa) وكان دون ريب أكبر سنّا من الملك ماسينيسا، وإلى هنا كانت مسألة انتقال السلطة عادية، ولكن ما هو غير عادي هو أن تخرَق هذه القاعدة، فيستلم العرش الماسيلي لاكوماز (Lacumazès) ابن كابوسا وكان أقلّ سنّاً من الملك ماسينيسا ولكنه كان مدعوما من شخصية قوية هو ماس ايتول (Mazaetull) وهو ما اعتبره الملك ماسينيسا -الذي أصبح هو المؤهّل- خرقا للعُرف واعتداءً على حقّه في العرش بعد أن توفّر فيه شرط السنّ . عندما بلغه خبر وفاة عمّه ثُمّ ابن عمّه، قرّر ماسينيسا العودة إلى مملكة والده، وانطلق من قادس (Cadès) احتمالا في خريف 206 ق.م.، وعبر بجيشه المضيق إلى مملكة المور، فاستقبله ملكها باقا (Baga) بحفاوة، ووضع 4000 جندي موري في خدمته يرافقونه حتى وصوله إلى حدود مملكته ، ولا تخبرنا المصادر عن موقف الملك سيفاكس الذي يفترض أن يستقبله عند حدود مملكته وأن يفعل مثل الملك الموري باقا، كما تنصّ التشريفات والتقاليد الملَكية، وإذا لم يتمّ ذلك فهو دليل على توتُّر العلاقة بين الطرفين ولكن ذلك التوتُّر لم يكن قد وصل حينذاك حدّ إعلان الحرب بينهما ليبقى كلّ طرف ملتزما بالحذر، وتبدو الخطورة في نوايا القائد القرطاجي باسبانيا الذي تقول المصادر أنّه أرسل سرية فرسان لمرافقة ماسينيسا في العودة إلى مملكة والده وأعطى أمرا لهم باغتياله في الطريق، ويبدو أنّ ماسينيسا أحسّ بالمؤامرة فاحترس من تلك السرية . عند وصوله حدود مملكته وجد في استقباله حوالي 500 فارس من رعايا المملكة، ورأى أنّه عدد كافٍ لمواجهة الوضع، فشكر الفرسان المور الذين رافقوه وطلب منهم العودة، ويكون قد وجّه نداء إلى جميع أنصاره والمخلصين لوالده بالانضمام إليه، وعقد العزم على افتكاك حقّه بالقوّة وبخبرة رجل عسكري كان يعرف أنّ انتصاره سيكون الورقة الرابحة التي تجلب له المزيد من الأنصار، وكان لاكوماز حينئذ قد انطلق من ثابسوس (روسيكاد) للالتحاق بالملك سيفاكس في سيرتا، وفي طريقه وعلى حين غرّة هاجم الملك  ماسينيسا خصمه، فتشتّت جيش لاكوماز الذي لم يكن مستعدّا، بعضه أسرع للدخول إلى المدينة والبعض الآخر استسلم، أمّا الملك لاكوماز فقد أسرع للالتحاق بسيفاكس تحيط به نخبة من حرسه، وانتشر خبر انتصار ماسينيسا فاسترجع ثقة رعايا والده الذين التفّوا حوله، وفرّ لاكوماز باتجاه قرطاج، ولكن الملك ماسينيسا رأى من الحكمة أن يصالح ابن عمّه وأن يقطع على الطغمة التجارية في قرطاج الخطط التي رسمتها ليظلّ الخلاف قائما بين أفراد الأسرة الملكية الماسيلية، فأرسل إلى لاكوماز وإلى ماس ايتول يطلب منهما نسيان الماضي وأنّه سيعيد إليهما ممتلكاتهما فقبل الاثنان عرضه وتمّ الصلح رغم ما حاكته قرطاج من مكائد. انفلتت الأوضاع وقامت الحرب الأهلية بين الطرفين، وانتصر ماسينيسا لأنّه كان الأقوى عسكريا بفضل خبرته الحربية، لكن انتصر بقوّة الحقّ أيضا، والمرجَّح أنّه كان مدعوما من شعبه الذي يكون قد حرّكه وازع العدل للوقوف إلى جانبه ممّا يسّر له النصر، فاستردّ حقّة واعتلى العرش الماسيلي(17). انتصر الملك ماسينيسا إذن، ولم يتحقّق ما كانت قرطاج تهدف إليه، وهو ما جعل صبرها ينفد، لتخرج عن صمتها هذه المرّة وتعلن قلب التحالف القائم، فألغت تحالفها مع جارتها المملكة الماسيلية، ورأت أنّ الوقت حان لتضرب الملك الطموح ماسينيسا بسيفاكس، فأقدمت على التحالف مع سيفاكس الذي كان يقاتل في صفوف الرومان ضدّها ، ومع أنّ هذه الخطوة ستؤدّي إلى عودة الوحدة  بين أمازيغ ماسيليا وماسيسيليا وبروز نوميديا موحّدة من جديد وهو وضع لا تطمئنّ إليه حكومة قرطاج كثيرا، إلاّ أنّ ذلك في نظرها سينهك الطرفين، كما أنّه يمثّل أهون الضررين، لأنّ سيفاكس المتقدّم في السنّ يمكن احتواؤه أمّا ماسينيسا الفتيّ فلا حدّ لطموحه. دور قرطاج ابتدأت قرطاج كما أشرنا بداية متواضعة كقاعدة تجارية -على إقليم الدولة الماسيلية – مؤجّرة من الملوك الماسيل ولكنها أخذت تنمو تدريجيا دون أن يكون لها منافس بعد تراجع دور غريمتها أوتيكا المجاورة لها، وبعد أن اغتنت من التجارة البحرية التفتت الأوليغارشية التجارية بها نحو الداخل وأخذت تتوسّع بشراء الأراضي، في حوض مجردة الأدنى وشبه جزيرة رأس بونة (Cap bon) إلى جهات بنزرت (Hippo Diarrhytus)،وتجاوز هذا التوسّع إطار الانتفاع الاقتصادي إلى السيطرة السياسية وهذا من شأنه أن يحدث اضطرابا في العلاقة بين قرطاج والمملكة الماسيلية،ولعلّ هذا هو أحد أسباب ذلك الخلاف الذي أشارت إليه المصادر بين قايا وجيرانه البونيين، فقرطاج التي ظلّت كما نقول اليوم “منطقة تجارية حرّة” تحوّلت إلى قوّة سياسية وقطعت عن المملكة الماسيلية الإتاوة التي كانت تدفعها لها، ومن شأن هذا التحوُّل أن يحدث بين الطرفين خلافات عديدة أهمّها النزاع على الحدود. لعلّ قرطاج كانت تنظر بعين الرضا عن ملوك الماسيل المتقدّمين في السنّ مثل أوزالاس وابنه كابوسا اللذين اعتليا العرش تباعا بعد وفاة قايا، وتكون هي من حرّك الرجل القوي في الأسرة المالكة: ماس ايتول، لدعم الملك الشابّ لاكوماز (Lacumaze) () الأخ الأصغر لكابوسا، الذي تكون قد ارتضته واطمأنّت إليه ولضمان الحماية له، وبالتالي قطع الطريق على الأحقّ بالعرش وهو ماسينيسا بسبب تكوينه العسكري وكفاءته السياسية بل وطموحه الذي لم يكن خافيا على ساسة قرطاج. إذن تكون قرطاج قد وضعت الملك الطفل لاكوماز وحاميه ماس ايتول في طريق ماسينيسا، واطمأنّت إلى أنّ العرش الماسيلي بتنفيذ تلك الخطّة إن لم ينهار سيتفكّك – في جميع الاحتمالات- ولعلّ ذلك ما كان ليخفى على ماسينيسا وهو من كان ضمن الجيش القرطاجي في إسبانيا، ممّا يجعله مطّلعا على مرامي القيادات البونية، خاصّة وأنّ الحسد الذي يثيره القائد المنتصر متأصّل في النفوس، ولعلّه كان يتوقّع أيضا مثل هذه المواقف من الأوليغارشية القرطاجية التي كانت على خلاف مع والده، رغم الخدمات التي أسدياها لها، وذلك يزيد من احتراسه واستعداده لمواجهة أيّ طارئ. لعلّ ماسينيسا العائد من جبهة الحرب، ما كان يرتضي لمملكة والده أن تؤول إلى ملكٍ طفل وكفيل مناوئ، وأنّ الآفاق التي يرنو إليها تتجاوز هذا الوضع بكثير، وهو يرى كيف يحارب الرومان لمدّ سلطانهم، وكيف تقاوم قرطاج للاحتفاظ بامتيازاتها، وكيف ساهم في صنع النصر للآخرين الذين لم يتردّدوا في الغدر به وممالأة خصومه، وفي هذه الأجواء تكون قد اختمرت في ذهنه فكرة نوميديا الموحّدة بل أفريقيا القوية التي يمكن لها ذات يوم أن تقف على قدم المساواة مع روما، وتلك هي الإرهاصات التي يختصرها الشعار الذي أطلقه فيما بعد وهو أفريقيا للأفارقة. اندلاع الحرب بين النوميد الماسيل والماسيسيل كان التحالف بين قرطاج وسيفاكس بمثابة الضوء الأخضر له لمهاجمة المملكة الماسيلية وضمّها إلى مملكته والقضاء على ماسينيسا والأسرة الملَكية الماسيلية الأمازيغية ، بمباركة من الأرستقراطية المركانتيلية القرطاجية، وعندما كان الملك ماسينيسا في منطقة السهول الكبرى منهمكا لردّ عدوان قرطاجي عليها ، كان سيفاكس -بإيعاز من قرطاج- يكتسح بجيشه إقليم المملكة الماسيلية من الغرب، ليستولي على عاصمتها سيرتا، وواصل جيش سيفاكس زحفه باتجاه ماسينيسا وعلى رأسه كبير قادته وهو بوكار Buc1) الذي حقّق انتصارا خاطفا على ماسينيسا، هذا الأخير لم يبق معه إلاّ عدد محدود من نخبة الفرسان، فانسحب إلى جبل واحتمى به ، أمّا بوكار فسرّح أغلب جنده، واستبقى معه نخبة من المشاة تكفيه لإتمام مهمّته، عددها 500 وأخرى من الفرسان عددها 200 ، وقام بتتبّع الملك وإحكام الحصار عليه وعلى من معه في خانق، لكن الملك تمكّن من الإفلات، صحبة عدد من فرسانه لا يتجاوز الخمسين، واخترق السهول الكبرى باتجاه قليبية (Clupea)، فتعقّبه بوكار وحاصره فقتل جميع من معه، ولم ينج سوى أربعة أحاطوا بماسينيسا وهو جريح وفرّوا به فاعترضهم نهر وكان لا بدّ من العبور ولكن اثنان منهم غرقوا تحت بصر الماسيسيل الذين ظنّوا أنّ ماسينيسا غرق هو الآخر، فلماّ شاهد بوكار ذلك تأكّدت لديه وفاة ماسينيسا غرقا، ورأى أنّه من غير المجدي المغامرة بعبور النهر، وعاد أدراجه إلى سيفاكس وأخبره بموت ماسينيسا، واتجه الجميع إلى قرطاج حيث استقبل سيفاكس بحفاوة. كان ماسينيسا قد تمكّن من النجاة صحبة اثنين والوصول بسلام إلى الضفّة الأخرى للنهر، واختبأ في أدغالها، حتّى التأمت جروحه، وبعد ذلك خرج من مكمنه وتمكّن خلال أيام من جمع أربعين فارسا، سار بهم نحو مداشر الماسيل وأظهر نفسه لهم فعرفوه وأثناء ذلك جمع حوالي 6000 من المشاة و4000 من الفرسان، وأخذ في الاتصال بأنصاره الأوفياء له ولذكرى والده، وخاصّة في جهة السهول الكبرى التي يكون أهلها من النوميد قد راهنوا عليه لاسترداد ملكياتهم التي اغتصبها القرطاجيون وكانت دائما بؤرة الخلاف بين الطرفين، وسيكون الانطلاق في استرداد عرشه من تلك المنطقة باتجاه هيبون وسيرتا، ووجد في المنطقة البونية الغنية فرصة للحصول على غنائم لتمويل مشروع استرجاع عرشه. تنبّه سيفاكس إلى الخطر الذي يهدّد أمنه فقرّر هذه المرّة أن يقوم بقيادة جيشه بنفسه، مع إشراك نجله ورمينا (Vrmina)، وكانت خطّته أن يسير جند ورمينا ليلا وأن يزحف هو في النهار ، وهي الخطّة التي نجح بها لأنّ ماسينيسا لم ينتبه إلى خطّة خصمه وهوجم جيشه من الجهتين ولم يتمكّن الماسيل حتّى من النجاة فرارا فقتل أغلبهم وأسر الباقي، ولم يبق مع ماسينيسا سوى مائتي فارس وفي خضمّ الحصار كان عليه أن يفتح ثغرة في جيش الخصم ليتمكّن من الانسحاب والنجاة فقسّم فرسانه إلى ثلاث فصائل وأمر كلّ واحدة بفتح ثغرة في صفوف العدو محدّدا مكان اللقاء ولم تنجح في اختراق الحصار سوى الفصيلة التي يقودها ماسينيسا والفصيلتان الأخريان إحداهما سحقت بعد دفاع مستميت والأخرى استسلمت، وتعقّب ورمينا الفارّين ولكن لم يلحق بهم، وانتصر سيفاكس انتصارا ساحقا هذه المرّة أكبر من السابق، وأصبح على رأس مملكة شاسعة تمتدّ من مولوشا إلى حدود القطر القرطاجي ، واحتفل بالزواج من صوفونيسبة ولينال رضا أصهاره تنازل لهم عن المنطقة التي كانت قرطاج تدّعي أنّ قايا انتزعها منها. نجا الملك  ماسينيسا إذن من موت مؤكّد ووصل منطقة السيرت ليكون في تلك الجهة البعيدة في مأمن من سيفاكس والقرطاجيين وأنصارهم. ولم يبق معه أكثر من 50 فارسا، ويكون قد استقرّ بجبل نفوسة ما بين مدن السيرت وبلاد القرامنت وقد وجد الملك ماسينيسا لدى هؤلاء حسن الاستقبال، والاستعداد للتعاون معه ضدّ سيفاكس المدعوم من قرطاج والمنفّذ لسياستها  التي خطّطت لها منذ أن أثبت ماسينيسا في إيبريا تفوُّقا عسكريا لصالحها، بحيث توجّست منه الطغمة التجارية البونية خيفة، لأنّها كانت لا ترتاح إلى جار قوي له أفضال عليها مثل ماسينيسا، الذي انتهت مهمّته في نظرها بعودته من إسبانيا، وفي نظرها أيضا أنّه استهلك دوره ولا بدّ من التخلّص منه بأيّ وسيلة وأولها تحريك نار الغيرة والعداوة بينه وبين مرشّح جديد لصداقتها يمكن توظيفه لفترة مثل ماسينيسا إلى أن يستهلك دوره هو الآخر ليكون مصيره مثل مصير الأول ، ويعرف المطّلعون أنّ ذلك الزواج السياسي الذي عقد قرانه بين سيفاكس والجميلة صوفونيسب كان الطعم الذي اصطاد به أشفاط قرطاج حليفهم الجديد، الذي لن يتردّدوا عند نهاية المهمّة المنوط بها في الغدر به كسابقه. من منفاه في بلاد القرامنت عمل ماسينيسا على تكوين جيش جديد، وهو الذي خبر الحروب وتمرّس في فنون القتال ومن هناك يكون قد اتصل بأنصاره لتجميعهم من جديد، ويكون قد أقام هناك طيلة سنة 204 ق.م.، يراقب الوضع وتطوّرات الحرب البونية، وكان سيبيون “الأفريقي الذي عاد من إسبانيا إلى روما سنة 206 ق.م. -حيث انتخب قنصلا، وباشر وظيفته منذ 15 مارس من نفس السنة- يفكّر في نقل الحرب إلى أفريقيا ، وكان يفكّر في أهمّية التحالف مع أحد الملكين ماسينيسا وسيفاكس، ورأى أنّ النصر على قرطاج لا يتمّ إلاّ باستغلال تفكّك الجبهة الأفريقية، وحيث أنّ عرى الصداقة بين قرطاج وحليفها سيفاكس كانت في أوج قوّتها، فإنّ ماسينيسا المخلوع من عرشه والمجرّد من مملكته هو الأنسب لما يخطّط له سيبيون، مع أنّ ماسينيسا كان وجها لوجه ضدّ الرومان إلى جانب قرطاج في الحرب التي كانت بين الطرفين في إسبانيا ، إلاّ أنّ حسابات الحرب التي يتقنها سيبيون الأفريقي كانت تشير إلى ضرورة الاتصال به، خاصّة وأنّه يعرف كفاءة ماسينيسا العسكرية فضلا عن النكبة التي حلّت به والتي تجعله لا يتردّد في الانخراط في أيّ حركة يمكن أن يستعيد بها كرامته وعرشه. حملة سيبيون استلم سيبيون مقاطعة صقلية، وهناك أخذ يعدّ العدّة للعبور إلى البرّ الأفريقي وتنفيذ خطّته، وانتهت عهدته السنوية من القنصلية وقد أوشك على نهاية الإعداد لتجهيز الحملة، وكانت خطّته تتضمّن إرسال حملة صغيرة بقيادة ضابطه لايليوس (Laelius) بهدف جسّ نبض الخصم، فنزلت الحملة في جهة هيبو ريجيوس (عنابة) ، وهناك التقى الملك ماسينيسا بلايليوس ويكون التنسيق بين الطرفين قد تمّ بصفة عملية، وتمّ تدارس الوضع حيث أنّ الظرف مناسب لتنفيذ خطّة سيبيون، خاصّة وأنّ سيفاكس كان منشغلا بالقضاء على ثورات في عديد الجهات من المملكة، وهانيبال بقوات قرطاج لا يزال في إيطاليا . انتهت الاستعدادات للحملة فقرّر سيبيون الانطلاق في أواخر صيف 204، وكان الأسطول الحربي يتكوّن من 40 قادوس و400 سفينة نقل، وعلى متنها 35000 ما بين مشاة وفرسان(32)، تحرسه من كلّ جهة 20 سفينة حربية وعلى اليمين سيبيون وأخوه، وعلى اليسار لايليوس والكستور كاتون، وكان سيبيون ينوي التوجّه نحو ساحل السيرت الصغير حيث يمكن الإنزال في أمان بعيدا عن قرطاج  ولكن الضباب حال دون التحكّم في خطّ السير ولمّا انقشع وطلع النهار تراءى الساحل الأفريقي فسأل سيبيون عن الرأس الأقرب فقيل له : Pulchri promunturium “الرأس الجميل”، فأجابهم هذا فأل حسن هنا ينبغي أن نذهب .. هذا الرأس هو رأس سيدي علي المكّي أو رأس طريفة، وهناك أقام معسكره في موقع حصين طبيعيا ، بجوار قرية استولى عليها وأخذ منها 8000 أسير، وأطلق يد فرسانه سلبا ونهبا في ممتلكات السكّان العزّل، وكانت الغنائم أكثر من المؤن التي جلبها معه من صقلية، وبعد أيام اتجه نحو أوتيكا وعسكر على بعد 1500 م من أسوارها ، وهناك التحق به ماسينيسا ومعه ألفا فارس، وبدأت المناوشات الأولى وانتشر الرعب في كلّ مكان، وانضمّ سيفاكس إلى حليفه أسدروبال بن جيسكون. كانت فرق الفرسان القرطاجية قد اتخذت من قرية اسمها سلايكة (Salaeca) مقرّا لها وهناك ستبدأ المواجهة الأولى وكان ماسينيسا بفرسانه قد استدرج القرطاجيين ثمّ كرّ عليهم من جهة وسيبيون من الجهة الأخرى وتمّ سحق الجيش القرطاجي ، وكان على سيبيون أن يختار موقعا حصينا وآمنا لإقامة معسكره بعد أن لاحظ استعدادات خصومه، بحيث بلغت قوة أسدروبال بن جيسكون 30000 من المشاة و3000 من الفرسان وعدد من الأفيال، أمّا حليفه سيفاكس فكان في وسعه تجنيد 50000 من المشاة و10000 من الفرسان، ممّا جعل سييون في خطر حقيقي ، وحينما كان يرسل رسله ويستقبل رسل خصومه لعقد السلم كان يفكّر في خطّة أخرى فقد أخبره رسله بأنّ الأمازيغ النوميد أقاموا أكواخا من الخشب والقصب في معسكر سيفاكس والقرطاجيين فخطّط سيبيون لحرقها وظلّ يرتقب الفرصة المناسبة ومرّ الشتاء وجاء الربيع فنفّذ خطّته وألحق بأعدائه خسائر جمّة. كانت المعركة الثانية في السهل الشاسع (دخلة أولاد بوسالم) وقد انهزم أسدروبال وحليفه سيفاكس وعاد كل منهما إلى عاصمته، وعقد سيبيون مجلس حرب قرّر فيه أن يلاحق ماسينيسا ولايليوس سيفاكس حتّى لا يتمكّن من إعادة تجميع جيشه، أمّا سيبيون فاستولى على قرى المنطقة وسلب المؤن والأموال التي تكفي معسكره، وكانت هزيمة السهول الكبرى هذه كارثة حقيقية على أسدروبال وحليفه سيفاكس . استعادة ماسينيسا لعرشه ومملكته خلال ملاحقة ماسينيسا ولايليوس لسيفاكس دخلا التراب الماسيلي وعندما انتشر خبر عودة الملم ماسينيسا خرج السكان واستقبلوه بحفاوة وطردوا الحاميات التي أقامها الملك سيفاكس، هذا الأخير انسحب إلى مملكته القديمة، ولكن قرّر بعد ذلك أن يستأنف الحرب وكان لا يزال معه جيش كبير ، فدارت المعركة بين الملكين الأمازيغيين ماسينيسا وسيفاكس في مكان ما شرقي سيرتا (24 جوان) وانهزم جيش سيفاكس لأنّ أغلبه كان من المجنّدين الجدد الذين لا خبرة لهم، كما تعثّر فرسه بسبب تلقّيه سهما قاتلا، فسقط جريحا وألقي عليه القبض واقتيد أسيرا إلى الملك ماسينيسا الذي دخل به العاصمة سيرتا وهو مقيّد بالأغلال ، وتسارعت الأحداث واستعاد ماسينيسا عرشه ومملكته، وأكثر من ذلك الاحتفاظ بالمملكة النوميدية موحَّدة، أمّا القرطاجيون فليس أمامهم سوى استقدام هانيبال . معركة زاما تطلّب انتقال هانيبال من إيطاليا إلى البرّ الأفريقي جهودا كبيرة في تجهيز أسطول وضمان الأمن له، وفي الأخير نزل بجهة لمطة (Leptis Minor) ثمّ تمركز بالقرب من هدروميت ومن هناك أخذ في دعم قوّاته بتجنيد المزيد من المحاربين والتحالف مع أمراء وأعيان القبائل في المنطقة وكان من بينهم ماس ايتول وكذا اورمينا نجل الملك سيفاكس، وكان مجلس الشيوخ القرطاجي يستعجله في الدخول في الحرب لسحق الرومان الذين تزداد قوّتهم يوما بعد يوم وهم يهدّدون العاصمة البونية بالحصار ومنع وصول المؤن إليها . من هدروميت تحوّل هانيبال غربا، وقد فسّر البعض ذلك بنيّته في قطع الطريق بين سيبيون وحليفه الملك ماسينيسا، أي قتال كلّ طرف لوحده ومنع انضمامهما إلى بعضهم البعض، وهي خطّة ذكيّة ولكن يبدو أنّ ما فكّر فيه هانيبال كان سيبيون يفكّر فيه والدليل هو خروج هذا الأخير من معسكره في تونس والاتجاه غربا لاعتراض سبيل هانيبال وانتظار وصول الملك ماسينيسا) وهو ما تمّ فعلا فقد عسكر سيبيون بسهل زاما ، وفي هذه الحالة يكون هو من اختار ميدان المعركة وليس هانيبال الذي ما إن خرج من أحد المسالك المنفتحة على السهل حتّى وجد بانتظاره سيبيون وحليفه الملك الأمازيغي ماسينيسا، وليس أمامه غير خوض المعركة التي لم يكن يتوقّع أنّها ستكون على هذا الشكل.

المراجع من هنا


Post a Comment

أحدث أقدم

بحث هذه المدونة الإلكترونية